· الدور الاسرائيلي في جنوب السودان
· عن الاعترافات بأنّ الموساد شارك في القتال
· العلاقة التاريخية مع النظام السوداني
أمير مخّول
تعتبر منطقة القرن الافريقي من الأوليات المهمة في الاستراتيجية الاسرائيلية ، وتندرج علاقات إسرائيل بجنوب السودان ضمن تلك الاولويات في العلاقات الخارجية ورؤية الامن القومي بدوائره العالمية والاقليمية والمحلية، وتحظى هذه العلاقات بمكانة خاصة على جدول اعمال النقاش السياسي الإسرائيلي. ويعود ذلك الى منحى إسرائيلي ثابت منذ قيام الدولة ، وينسحب الامر الى الاستراتيجيات والدبلوماسية النشطة التي يتميز بها عصر رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو الممتد منذ عقدين . كما ان الواقع العربي االحالي ، منفتح بشكل لم يسبق له مثيل على التطبيع وعلى فتح المجالات امام النفوذ الإسرائيلي.
لا تزال ملفات مركزية في هذه العلاقات طي الكتمان، فما ينشر يمرّ بمقص الرقابة العسكرية الإسرائيلية. اما ارشيف الدولة فمجمل الوثائق ذات الصلة فيه غير متاحة للباحثين.
اعتمدت في هذه الورقة على مذكرات منشورة لشخصيات أمنيّة وتقارير من الصحف العبرية
[1] ومقابلات مع قيادات أمنية إسرائيلية وأخرى سودانية وبعض التقارير المتلفزة عن عمليات كُبرى بقيت طيّ الكتمان طوال عشرات السنين من ضمنها تأسيس جيش جنوب السودان والدور الاسرائيلي في ذلك.
تتعامل إسرائيل مع ذاتها بمواصفات دولة عظمى، وينعكس هذا في مدى تغلغل نفوذها في السودان بجنوبه وشماله، وفي تعاطيها مع كل الأطراف المتصارعة واللعب المتزامن على تناقضاتها. فتكشف عن علاقات وثيقة مع شخصيات قيادية سودانية -منها من يتبوّأ مناصب عليا في جنوب السودان أمثال الجنرال جوزيف لاقو، وسلفا كير، ودانغ آلور،
[2] ورياك متشار، وعبد الواحد محمد نور. و في الوقت ذاته كانت لديها تفاهمات عميقة وعلاقات قوية وصفقات مع كل من جعفر النميري والبشير،
[3] اضافة الى استغلال التوتر القبلي في جنوب السودان وبالذات بين قبيلتي الدنكا والنوير وتسخيره لخدمة مشاريعها.
إنّ تصرفها كدولة عظمى يعني أنّها تبني خارطة مصالح وأولويات برؤية دوليّة متعددة الأطراف، لكنها تجعل كل طرف يتعاون معها على أساس ثنائي مُحدّد، ويُشكل هذا أساسا لعلاقات قائمة على الهيمنة و التبعية. وفي المنظور الدولي الواسع تقوم إسرائيل بتشخيص التداخلات الدولية في أفريقيا، وتسعى الى ملء جزء من الفراغ الذي أحدثه انهيار الاتحاد السوفيتي كقوة عظمى ذات نفوذ كبير في أفريقيا واعتمدت محدوديّة النفوذ الروسي اليوم مقارنة بالسوفييتي في حينه. كما وتسعى الى ضمان حُصّة لها مقابل النفوذ الصيني الكبير.
تستخدم إسرائيل سياسة “القوة الناعمة” و”الدبلوماسية الناعمة”، وهو توجه يُسانده غالبية المُحللين ومراكز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلية. يدعي هيرمان بوتيم الى أن “ما حرّك إسرائيل نحو إقامة علاقات مع دول أفريقية كان في الأساس البعد الأخلاقي”(2014).
[4] ويضيف ” كما أنّها نتجت عن رغبة في الالتفاف على المقاطعات التي جرى فرضها بغية عزل إسرائيل”. ويتابع “عوامل أخرى تمثّلت في المساعي الى فك الارتباط بين التهديدات من داخل البيت ومن خارجه”، وإلى بناء تحالفات “تعزز مباديء وقيم الدولة، وذات الوقت ترسيخ موقع إسرائيل كلاعبة ذات أهمية في المنظومة الدولية . الدول الافريقية الحليفة لإسرائيل طلبت تعزيز الروابط الثقافية معها، والارتباط بخبراتها التقنية في مجالات التنمية والأمن. وكي تتعزز هذه العلاقات ينبغي من إسرائيل ان تتمحور في تقديم دعم فني للتنمية. أن سياسة “القوة الناعمة” في العلاقات الثنائية هي المفتاح لكسب ود أفريقيا”(المصدر ذاته). استثمرت اسرائيل في افريقيا جهودا دبلوماسية كبيرة غير مسبوقة، كما حددت شرق أفريقيا وبالذات القرن الأفريقي كمنطقة مصالح استراتيجية عُليا، سواء في مسألة الطوق آنفة الذكر، أم في مسألة المواجهة التي أعلنتها مع ايران اضافة الى أنها تسعى الى محاصصة النفوذ على أفريقيا مع روسيا والصين.
يُطلق نتنياهو على المرحلة الراهنة من هذه العلاقات “عصر النهضة” أو “عصر الانبعاث الدبلوماسي”. وجُلّ الجهود الإسرائيلية منكبّة على العلاقات مع أفريقيا وبالذات دول القرن الافريقي، التي تعتبرها إسرائيل مناطق ذات أولوية استراتيجية. ويحظى شرق أفريقيا ” بأهمية فائقة لدى إسرائيل وبالأساس بسبب قربه للبحر الأحمر، الذي يشكل طريق التجارة مع البلدان الاسيوية” وتعود هذه النظرة الاستراتيجية الى عصر بن غوريون اي منذ قيام إسرائيل”، إن ربط دول أفريقيا بمصالح وعلاقات تبعية بإسرائيل من شأنه ان يوفر حزام أمان للاخيرة في الامم المتحدة والساحة الدولية.
[5]
ومن المتعارف عليه في إسرائيل ومرورا بكل أجهزتها بما فيها الموساد، هو أنها تُسخّر التاريخ اليهودي والدين اليهودي ويهود العالم في بث رسالتها وفي تغليف سياساتها ومخططاتها.
حين تحدد هذه الدولة هدفا استراتيجيا أمنيّا لها، فإنها لا تعلن ذلك وتسعى الى ابقاء أذرعها غير مرئية، وتسعى احيانا الى التضليل والتمويه بغية إشغال الخصوم في محاور بعيدة عن غايتها الاساسية. ومن المتبع ضمن العقيدة الامنية الاستراتيجية ان تحدد خارطة الهدف والبيئة التي يتواجد فيها، ثم وإن لم يكن آني ، تبدأ العمل على التغلب على كل المعوقات القائمة -او التي من الممكن ان تقوم- وذلك للتخلص منها الى حين تقليص دائرة التحديّات حتى عزل الهدف عن كل بيئته بغية الانقضاض عليه مباشرة. وفي الواقع الاقليمي فإن ما يبدو اليوم هدفا قد يكون في الان ذاته معوّقا أو بالمقابل فرصة في التعاطي مع هدف اخر.
تعتبر صراعها مع ايران -سواء ضمن تهديدات امنها القومي ام ضمن النفوذ في المنطقة –وعليه فإن ما يبدو اليوم معركة على أفريقيا يلتقي مع ما ينسب لإسرائيل من عمليات في العراق وحتى في ضواحي العاصمة بغداد وذلك كي تعزل ايران عن محيطها كما تفعل إسرائيل في سوريا او السودان…. وهذا يندرج ايضا ضمن استراتيجية درء الحرب المباشرة والمعلنة والتي تطلق عليها “معركة بين الحروب”، لتغدو “الحرب” سلسلة من العمليات تخدم بمجموعها اهداف الحرب الكبرى ويجري التحكم بمداها، من دون اندلاعها. لكن المجاهرة في هذه الحالة بالتهديد الايراني قد يكون الهدف الحقيقي منه هو توسيع وتعميق نفوذ إسرائيل في المنطقة العربية وضمان التطبيع واستبعاد قضية فلسطين عن جدول الاعمال العربي، وضمن ذلك الحيلولة دون قيام محور يواجه مخططاتها.
- العلاقات مع الجنوب والمشاركة الإسرائيلية في العمليات العسكرية
يرى حاييم كورن (2019) بأنّ “الأهمية الاستراتيجية المتبادلة لجنوب السودان وإسرائيل شكّلت الأساس لعلاقات طويلة الأمد، منذ أواخر الستينات إلى الوقت الحاضر. خلال عقود الحرب الأهلية في السودان، رأت إسرائيل في الجنوب حليفاً محتملاً في منطقة معادية عربية-اسلامية. بدورها ينظر جنوب السودان إلى إسرائيل كمصدر للمساعدة العسكرية وشريك أخلاقي”
[6] وفي كتابه
“في بعثة الموساد في جنوب السودان 1969-1971 يوميات معركة“، تم الكشف وللمرة الاولى بأن دور رجال الموساد وضباط الجيش الإسرائيلي لم يقتصر على مساعدة المتمردين الانفصاليين من خلال الارشاد العسكري والمساعدات الطبية فحسب،
بل أنهم شاركوا بشكل فعلي ولمدة عامين في العمليات العسكرية، بما في ذلك نسف وتفجير الجسور وإصابة عبّارات الإمدادات العسكرية في مياه النيل“.[7] وكان الهدف تعطيل قدرة الجيش السوداني على ارسال الامدادات التموينية والذخيرة وإسناد الجنود المشاركين في قمع التمرد في الجنوب.
تشير العلاقات الوديّة بين ضباط جيش جنوب السودان وبن عوزيئيل الى مدى عمق العلاقات المجاهر بها والى الثقة الخاصة وكسر الحواجز. كما وتسعى إسرائيل الى استمالة شمال السودان ليحتذي بجنوبه ويحظى بامتيازات العلاقة معها.
كشفت مقابلة صحيفة هآرتس مع الجنرال المتقاعد جوزيف لاقو أبعادا جديدة ومثيرة في العلاقة مع إسرائيل. يقول لاقو ” “لقد بدأت العلاقات برسالة شخصية ارسلها الى رئيس الحكومة ليفي اشكول بواسطة سكرتير السفارة الإسرائيلية في اوغندا ، بعد العام 1967 . كتب فيها: “سيدي رئيس الحكومة” ، “أهنئكم على الانتصار على العرب، أنتم الشعب المختار عند الله القادر على كل شيء”.
[8] ويتابع “سيكون لنا أمر مشترك وهو محاربة العرب”، وقد اقترح القائد السوداني صفقة: اذا دعمت إسرائيل (آنيا-نيا) فإن لاقو سوف يهتم بإقلاق بال جيش شمال السودان ويحول دون انضمامه الى مصر ودول عربية اخرى تنوي مهاجمة إسرائيل” “.
يؤكد لاقو أن غولدا مئير دعته الى إسرائيل. وبكلماته “عمليا قامت بتهريبي الى البلاد” وهكذا وخلال زيارات لقواعد عسكرية من الجولان وحتى سيناء والضفة الغربية، التقى العسكري السوداني مع رئيسة الوزراء في مكتبها في القدس. تحدث الاثنان في الدين، وقد روى لها بأن المسيحيين في جنوب السودان يرون باليهود اقرباء للمسيح. لقد تحدثا عن السلاح وعقدا صفقة. ويضيف “بعد فترة وجيزة وصلت إمدادات اسلحة من إسرائيل الى جوبا. وقد شملت راجمات مدافع الهاون ومدافع رشاشة خفيفة واسلحة وذخيرة من مخلفات الجيوش العربية في حرب الايام الستة”. ويؤكد “لم يزوّدونا بأسلحة جديدة ولا تلك المصنوعة في إسرائيل، لأنهم حرصوا على عدم انكشاف حقيقة دعمهم لنا” ويواصل “بعد ارسال الاسلحة حضر ثلاثة مستشارين إسرائيليين والذين انضموا الى المتمردين وهم مستشار عسكري، وتقني، وطبيب. […] قلبت المساعدات الإسرائيلية ميزان القوى، ساعد هذا على تغيير المنحى، وتحولنا الى قوة يجدر التعاطي معها، وغدونا اصحاب تأثير في الحرب ضد الخرطوم”.
في تلك السنة وقّع شمال السودان وجنوبه على اتفاقية هدنة في اديس ابابا بوساطة امبراطور اثيوبيا هيلا سيلاسي. ويتضح لاحقا بأنها كانت تمهديدا لتحسين مواقع بغيّة متابعة القتال لاحقاً. وقد جاء في المقابلة ذاتها على لسان لاقو أنه “في العام 1983 اندلعت مجددا الحرب بين الشمال والجنوب، وفي هذه المرة بقيت إسرائيل بعيدة عن المتمردين. والسبب في ذلك
هو اتفاق سري بين رئيس السودان جعفر النميري وبين وزير الأمن الإسرائيلي ارئيل شارون.
[9] أراد النميري شن الحرب ضد الجنوب، والفوز بالنفط الخاص بنا ولإعمال الشريعة الاسلامية هنا، لكنه كان يعلم أنّ عليه تحييد الإسرائيليين، […] اتصل النميري الى شارون ودعاه للقاء في نيروبي، وهناك قال له إنه يقبل ويحترم اتفاقيات كامب ديفيد وانه على استعداد لاعلان صداقته مع إسرائيل. لكن لاحقا حذّر وقال: اذا ما توجه اليكم جوزيف لاقو او الجنوبيون في حال اندلاع صراع، فلا تمنحوهم شيئا. ويتضح أنه على الرغم من أن الخرطوم نحت نحو التطرف في فترة النميري، فقد وقّع شارون على صفقة مع الشمال، والتزم بالتباعد عن الجنوب مقابل التزام السودان بإتاحة المجال ليهود اثيوبيا بالمرور بشكل حر في حدود سيطرتها”. وهذا هو التفسير الجنوبي لقرار النميري انهاء التهدئة وإعلان مواصلة القتال مع الجنوب.
[10]
يتبين من التقرير ذاته أن دانغ آلور وزير خارجية السودان سابقا، ووزير خارجية الدولة الجديدة الموعود متفائل بالنسبة للعلاقات مع إسرائيل حيث يقول “لا أحد يقول لنا ما ينبغي فعله.لا الشمال ولا جامعة الدول العربية. “وفيما يتعلق بالجامعة العربية يقول المسؤول “لن نتيح لهم أن ينافقوا، وذلك لأنّ دولاً منهم تقيم علاقات (مع إسرائيل)، وبالاضافة الى ذلك فإننا لسنا أعضاء في الجامعة العربية، فمن أين لهم أن يقوموا بإملاء ما نفعل”.
في كتابه “في بعثة الموساد في جنوب السودان 1969-1971 يوميات معركة”، يكشف رجل الموساد سابقا دافيد “طرزان” بن عوزيئيل، للمرة الاولى وبتفصيل كبير وبشكل رسمي طبيعة تداخل إسرائيل في الحرب الاهلية في السودان
[11]
يتضح كما يرد في الكتاب أن “القرار بتقديم الدعم للتمرد في جنوب السودان كان نتاج عدة اسباب، المركزي فيها هو إبقاء الجيش السوداني -والذي بلغ عدد جنوده ثلاثين ألفا- مشغولا بالحرب في الجنوب وبشكل لا يستطيع ارسال جنوده لمساعدة الدول العربية في حروبها ضد إسرائيل. سبب آخر للتدخل كان المفهوم الذي يقف في اساس السياسة الخارجية الإسرائيلية والتي أُطلق عليها “حلف الضواحي -Ally “Periphery أو بكلمات أخرى “عدو عدوي هو صديقي”.
ويتبين أن الفكرة كانت “السعي لاختراق الحصار الذي فرضته الدول العربية على إسرائيل في اطراف الشرق الاوسط. وحسب هذه السياسة فإن الموساد هو القيّم الاول والاخير على تنفيذها، وقد تعززت العلاقات مع اثيوبيا المسيحية، ومع ايران وتركيا المسلمتين غير العربيتين، ومع أقليات إثنية مثل الاكراد في العراق والمسيحيين في لبنان وجنوب السودان. كما ان إسرائيل قد امدّت الملكيين في الحرب الاهلية في اليمن في عمليات انزال للاسلحة.
وعليه ينكشف بانه دخل الى جنوب السودان وخرج منها مرات عديدة كلٌّ من بن عوزيئيل وطلمور، وكذلك الاطباء عمانوئيل شبيرا، ورافي فالدان، وأليتسور حزاني، وفيما بعد المقدّم يوسف لونتس. لقد قطعوا في جولاتهم الخطرة والمثيرة آلاف الكيلومترات وفي هذا الاطار قاموا بتنظيم وتدريب الوحدات القتالية في آنيا-نيا، على حرب العصابات الصغيرة، وعلى كيفية اعداد عبوات جانبية، ونسف الجسور وإغراق السفن. فيما عالج الاطباء جرحى المعارك. كما وقاموا بإجراء تطعيمات لسكان القرى التي ساندت المقاتلين. بعد ذلك قاموا بإعداد مهبط في قلب الـ”بوش”، في حين أن طائرات عسكرية استأجرها الموساد وقادها طيارون من سلاح الجو الإسرائيلي قامت بإنزال أطنان من الاسلحة والذخيرة.
وقد جاء هناك أيضا أن رئيس الموساد تسفي زمير يرافقه أفرايم هليفي رئيس شعبة تيفيل،
[12] “قاما بزيارة قصيرة بغية الوقوف على الوضع عن كثب، كما وقام قسم الحرب النفسية في الموساد بإدارة الدعاية والاعلام في آنيا-نيا وعممهما على مستوى العالم”.
من متابعة الكتاب نعلم أنه وبعد ان تبوّأ بن عوزيئيل مناصب عليا في وحدة تسومت في الموساد في اوروبا، جرى استدعاؤه في اواخر سنوات السبعين بصفة ضابط عمليات خاصة لاستقدام يهود اثيوبيا والسودان، واستخدام اراضي السودان لمرور عشرات الالاف من “الفلاشا” ليصل منهم عشرون ألفا الى إسرائيل”.
برأيي أنّ الرواية بأن عمليات تهريب اليهود المذكورين من اراضي السودان قد تمّت من دون علم النظام السوداني هي رواية بحاجة الى مراجعة ومعاينة لمدى صحّتها. فمن المعروف مثلا ان العلاقات السرية لم تقتصر على جنوب السودان بل شماله ايضا سواء في فترة حكم جعفر النميري الذي عقدت اسرائيل معه صفقة بهذا الصدد أم البشير والذي سعت رسميا لدى الولايات المتحدة لالغاء لوائح الاتهام المقدمة ضده في محكمة الجنايات الدولية.
هناك جزء من المحللين الإسرائيليين انفسهم لا يؤمنون بقوة خارقة للفرد مهما كان خارقا فعلا. كما ان المشروع الصهيوني منذ نشأته اعتمد مبدأ التنظيم والمؤسسة والتخطيط وليس بطولات الافراد. وعليه نجد هناك نقد من احد المحللين العسكريين البارزين والملمّين بالمعلومات وهو ران اديليست الذي يطرح نظرة أخرى للأمور، فيكتب “هناك فجوة لا يمكن جسرها بين دور “طرزان” رجل الموساد في جنوب السودان، وبين الاستراتيجية السياسية-الامنية الإسرائيلية هناك في تلك السنين. حتى أن “طرزان” ذاته لم يكن يعلم (“أي شيء تقريبا”) عن دور “السي آي أيه”، ولا عن المصالح الامريكية في تأسيس الجيش السوداني الذي أقامه هو. كما لم يكن على دراية بإسهام الموساد في صراع الكتلتين الكبريين بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. لقد تسنى له ان يسمع عن ذلك، لكن لم يكن ما سمعه ليثير اهتمامه. لقد تلخصت وظيفته في مد يد العون للضعفاء والمساكين في مواجهة الأشرار والأقوياء. وهذا حصريا ما شاهده ميدانياً بأم عينيه، وهذا بالضبط ما قام به: أدار المعركة ضد الأشرار”.
[13]
ونجد أن عددا من الضباط الذين درّبهم الموساد يشغلون اليوم مناصب عليا في النظام السوداني الجنوبي. كما أنهم ارتادوا الكليّة العسكرية للجيش في الخرطوم وتدرّبوا فيها إبّان فترة الهدنة ولغاية 1985.
- إسرائيل وجرائم الحرب في السودان
يتضح أن تدخل اإسرائيل في جنوب السودان مستمرً ويغذي الاقتتال والحرب الاهلية، وسياسيا يجعل هذه الدولة أكثر تبعية لها. كما أن العلاقات لا تنحصر في شركات اسلحة خاصة فقط بل في الدولة ذاتها، مع العلم ان كل شركة تحتاج الى تصريح وموافقة وزارة الامن الإسرائيلية وضمن شروط تحددها الاخيرة. في المقابل أتت رسالة رئيس جمهورية جنوب السودان سيلفا كير الى نتنياهو والتي يترأّف فيها على أحد كبار الجنرالات الإسرائيليين يسرائيل زيف والمتورط في جنوب السودان، لتؤكد “ان جنوب السودان ما كان ليستقل لولا إسرائيل”، و” لولاكم ما كنا”. وفي هذا تأكيد على تغلغل اسرائيل في السودان وقوتها هناك.
[14] ويتبين أن الجنرال احتياط يسرائيل زيف- قائد غرفة العمليات في قيادة أركان الجيش الإسرائيلي وتحت غطاء شركة زراعية، زوّدت شركته اسلحة متنوّعة وذخيرة بما يعادل 150 مليون دولار ذلك للاطراف المتنازعة في السودان.
[15]
كما ويفيد موقع “واللا نيوز walla news” بأن الحلف بين إسرائيل وجنوب السودان يصب الزيت على نار الحرب الاهلية. وينقل عن عضو الكنيست تمار زاندبرغ بأن “نساء جرى اغتصابهن تحت تهديد البنادق الإسرائيلية المصوّبة لأعناقهن”.
[16] كما وأشار تقرير سري رفع الى مجلس الامن الدولي الى أن مجموعة مقاتلين الموالية الى ماتشار “تواجدت مؤخرا في جمهورية الكونغو الدمقراطية وفي حوزتها أسلحة أوتوماتيكية من صنع إسرائيل”. وحسب أقوالهم فقد تم الحصول على هذه الاسلحة ضمن صفقة سلاح أبرمت في اوغندا في العام 2007.
[17]وحسب التقرير اياه فقد رصدت لجنة خبراء أممية حيازة الجنود ورجال الشرطة في جنوب السودان، لاسلحة إسرائيلية وبنادق من نوع A وهي بنادق مطوّرة من بندقية غاليل التي تنتجها الصناعات العسكرية الإسرائيلية. وكان ذلك في فترة ارتكبت فيها جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية وأعمال ابادة. في حين ترفض وزارة الأمن الإسرائيلية التعقيب على ذلك.
كل هذا هو غيض من فيض من الأدلّة لتورط اسرائيل وتغلغلها في السودان وخلفية تدخلها ومسوغاته.
في مقاله في موقع جوكوبوست بعنوان:
“علاقات السودان وإسرائيل على عتبة حقبة جديدة: التحولات في وضعية إسرائيل في المدى تتدحرج حتى الخرطوم“، يسرد يتسحاق دغاني التحولات، واهمها كما يشير، هو أنّ احتمالية مقاطعة النفط العربي لإسرائيل قد ولّت، وأن إسرائيل قد تحوّلت الى دولة مزودة للغاز الطبيعي. وكذلك يعزو التحولات الى انهيار الاتحاد السوفييتي ونفوذه في المنطقة. وبكلماته “الا ان التطورات الاكثر إثارة هي انكشاف العلاقات الآخذة بالتوثّق مع شمال السودان المسلم […] في حين في هذه الايام تنشر في الصحف السودانية تقارير ايجابية عن إسرائيل والداعية الى تعزيز العلاقات معها. فالسودانيون معنيون بمساعدات زراعية وطبية منها، إنهم يشاهدون ما تقوم به إسرائيل في جنوب السودان، ويدركون أنه لن تكون فرصة في تدمير إسرائيل […]كما وانهم يدركون أن لإسرائيل المعرفة والخبرة في العمل مقابل البلدان النامية وكيفية الانتقال بها الى العصر الحديث”.
[18]
يسلط رونين بيرغمان
[19] -أحد أهم الخبراء الإسرائيليين في القضايا الاستخباراتية والاستراتيجية- الضوء على العلاقات الوثيقة مع نظام جعفر النميري ويقول “إن البلاغات التي وصلت مقر الموساد شمال تل ابيب من الخرطوم في نيسان 1985 كانت مقلقة للغاية. رئيس السودان جعفر النميري والذي حافظ على علاقات جيدة جدا مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل، جرى عزله للتو، وأصبح مقاتلو الموساد المتواجدون في السودان يتهدد حياتهم الخطر المباشر “.
يؤكد بيرغمان هناك أنه “طالما كان النميري في الحكم، كانت الأمور ميسّرة. قبل عام من عزله وافق النميري، وكما يبدو مقابل اموال طائلة، على إتاحة المجال امام الاف اليهود والذين تجمعوا في مخيمات لاجئين على الحدود مع اثيوبيا، بالوصول الى الخرطوم، ومنها في رحلات جوية خاصة الى اوروبا ومنها الى إسرائيل. وحين كشفت وسائل الاعلام عن “عملية موشي”،
[20] حظي النميري بانتقادات لاذعة على مستوى العالم العربي وأوقف العملية. لكن ثلاثة من مقاتلي الموساد بمن فيهم “أ” والذي كانت له باعٌ في الاغتيالات والتصفيات المشهورة في سنوات السبعين، واصلوا هذه العملية في الخرطوم ، وذلك من دون علم السلطات، وبتغليفة شركة استيراد وتصدير”.
خلاصة
ما قامت به إسرائيل لغاية اليوم في السودان هو استثمار بعيد الأمد شمل جنوبه وشماله، وكان ولا يزال لها دور مركزي في تجزيء أكبر البلدان العربية مساحةً الى دولتين، وتشير الدالّة الى احتمالات تجزئة اخرى مستقبلية يغدو السودان بعدها دولاً ودويلات متناحرة وتخضع بالمجمل لعلاقات تبعية مع إسرائيل وخارج المدى العربي. وهذا ضمن الإمعان في إعادة تجزيء المنطقة والعالم العربي. وما نحن بصدده في هذه المرحلة هو الانتقال من مرحلة الكتمان الى العلاقة المعلنة والمجاهر فيها بين الدولتين من قبل اسرائيل. وهو ما يدعمه أيضا يتسحاق دغاني- محاضر في قسم العلوم السياسية في جامعة بار ايلان بقوله”ان التطورات الاكثر إثارة هي انكشاف العلاقات الآخذة بالتوثّق مع شمال السودان المسلم […] في حين في هذه الايام تنشر في المواقع السودانية تقارير ايجابية عن إسرائيل والداعية الى تعزيز العلاقات معها.
[21] لم تعد إسرائيل معنية بعلاقات سريّة فحسب مع البلدان العربية، بل هناك مسعى رسمي وإعلامي الى المجاهرة بهذه العلاقات، وهذا ما تتطلبه ايضا السياسة الامريكية في مرحلة ترامب والتي تعبر عنها “
صفقة القرن“.
ويتضح انه إذ تسعى الولايات المتحدة الى استبدال شكل نفوذها المباشر في المنطقة، فهنالك دور أكبر معدّ لإسرائيل. كما ان المنظومة الدولية تخضع لتحوّلات خطرة في كل ما يتعلق بمعادلة الاخلاق والسياسة وتراجع ما يمكن وصفه بمنسوب الاخلاق في الردع الذاتي، هذا يخلق وضعا مساندا للتوجه الإسرائيلي الاستعماري في المنطقة، ويدعم التوجه بأنّ إسرائيل لا تتورع عن شيء لكنها لا تستطيع كل شيء الا بمدى ما يوفّره لأطماعها التناحر السوداني والعربي.
أدى ظهور مصالح أمنية مشتركة الى تجديد وتوثيق العلاقات بين إسرائيل ودول افريقية. وترى إسرائيل بالسودان كله منطقة مصالح استراتيجية عليا، وهي تواصل بناء علاقات تتيح لها زيادة وترسيخ نفوذها في القرن الافريقي. وترى بذلك حزاما أمنيّا ودبلوماسيا واقيا لمصالحها ولأمنها. وتحدد إسرائيل مناطق المصالح في سياق السودان بوصفها ما يمكن ان نطلق عليه الطوق على دول الطوق. فدول الطوق كانت عمليا البلدان العربية التي تشكل طوقا على إسرائيل، وفرض الطوق عليها هو محاصرتها واختراق الطوق العربي من خلال تفتيته ومن خلال طوق افريقي يمنع أية امكانية مستقبلية لإغلاق البحر الاحمر امام إسرائيل ونفوذها، والحيلولة دون أية احتمالية لاستخدام سياسي لقوة النفط العربي. وفي تحديدها لمصالحها تأخذ إسرائيل بالحسبان سيطرتها على كميات هائلة من مخزون الغاز الطبيعي تحت البحر المتوسط وما يوفره ذلك من ربط اقتصادات دول مصلحيا بها وارتهان سياسات هذا البلدان لهذه المصالح.
ظل تعامل إسرائيل مع القرن الافريقي تعاملا استعماريا وظيفيا من باب “الغاية تبرر الوسيلة” وهو قائم على نظرية التفوّق الاستراتيجي على كل اعدائها مجتمعين وعلى قوة الردع، وكل تحرك يخدم هذه العقيدة. ولهذا لم يعد سرا قيام احد فصائل المتمردين في دارفور بافتتاح مكتب له في تل ابيب وأن زعيمه يحظى بحماية فرنسا. وكان يقصد في ذلك “القائد التاريخي لحركة تحرير السودان ، والذي يقيم في المنفى في فرنسا”.
تكشف علاقات إسرائيل بالسودان عن مدى تغلغل هذا الكيان في النظام العربي وايضا في المعارضة. وهي ناقوس خطر وربما يكون من المتأخر الاصغاء له، بأنه في المواقع التي لم يستوعب فيها النظام العربي الرسمي المجموعات الإثنية والقومية والثقافية والاقليات المختلفة، فقد تحوّل هذا الشرخ العربي الى بوابة دخول لإسرائيل. وأي تشخيص للحالة لن يكون مفيدا الا بقدر ما يجري جسر مثل هذه الشروخ. وفي هكذا حالة فان إسرائيل تنجح في ربط النظام في مصالحها وتنجح في ربط المجموعات الملاحقة والتي يجري اقصاؤها بمصالحها، والتفتيش عن حماية وحلول خارج مركبات العالم العربي.
أمير مخول– كاتب ومحلل سياسي مختص بالشؤون الفلسطينية والإسرائيلية ، أسير سياسي سابق.
[1] التقارير الصحفية قد تأتي بمعلومات وتفاصيل كثيرة ولكنها قد تحجب ايضا معلومات وتفاصيل جوهرية، فالاعلام وبالذات الإسرائيلي ليس محايدا في هذا السياق. ومن مجمل ما قرأت من تقاطعات حول ذات الموضوع توصلت الى استنتاج ان المقابلة التي اجرتها صحيفة هارتس 27/1/2011 مع جوزيف لاقو، والتي سترد لاحقا، تحظى بمصداقية اعلامية، وكذلك المقابلات مع رجل الموساد السابق دافيد بن عوزيئيل.
[8] https://www.haaretz.co.il/misc/1.1469885 – هآرتس 27/1/2011 ( حتلنه في 12/9/2011). يُشار أن لاقو قد ترك صفوف الجيش السوداني عام 1963 كي ينضم الى الجنوب في الحرب الاهلية. وفيما بعد أسس حركة التمرد الجنوبي “انيا-نيا” كما وقام بقيادتها. ومن بين الضباط الشباب الذين خدموا تحته في تلك الفترة كان جون غارانغ وكذلك سيلفا كير. وفي العام 2005 وخلال الاستفتاء الذي حسم بشأن الانفصال عن الشمال، أشغل لاقو موقع مستشار خاص لسيلفا كير.
[10] يُنظر تقرير رونين بيرغمان بشأن الصفقة بين إسرائيل ونظام النميري- المعتمد في هذا المقال.
[11] وذلك في مقابلة مع يوسي ميلمان – أحد أهم المراسلين والمحللين للشؤون الامنية الإسرائيلية الذي يحظى بمصداقية عالية.
[12] المسؤول عن العلاقات السرية مع منظمات استخبارات زميلة ومع منظمات في دول لا تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل وكذلك تنظيمات مثل آنيا-نيا) فيما بعد تولى رئاسة الموساد.
[17] يتسحاق دغاني: محاضر في قسم العلوم السياسية في جامعة بار ايلان، وفي السابق كان محاضرا في جامعة ايبدن في نيجيريا وقام بإدارة شركات في أفريقيا وتمثيل شركات اخرى. ويشغل اليوم عضو مجلس ادارة لجنة نيجيريا في الغرفة التجارية إسرائيل-أفريقيا.- (واللا نيوز 20/10/2016).
[20] خطة نقل يهود اثيوبيا الى إسرائيل عن طريق الخرطوم
[21] شغل دغاني في السابق منصب محاضر في جامعة ايبدن في نيجيريا وقام بإدارة شركات في أفريقيا وتمثيل شركات اخرى. ويشغل اليوم عضو مجلس ادارة لجنة نيجيريا في الغرفة التجارية إسرائيل-أفريقيا