رسالة الى مصر: أسرى فلسطين 48 يطرقون أبواب مصر
حين انطلقت ثورة الشعب المصري أوائل العام 2011، اعتبرناها تعزّز ما في شعبنا الفلسطيني. فكلا الشعبين "لا يعرف المستحيل" في نضاله من أجل حريته وكرامته الوطنية والقومية. وقد استبشرنا خيراً وحالفنا أملٌ عظيم أن هذه الثورة ستعيد للشعب المصري سيادته وتعيد لمصر مكانتها التي تليق بشعب عريق وبدولة تسعى لتكون دولة عظمى إقليمية ومن الدول الصاعدة دوليا وذات حضور عالمي فعال.
في إدارة الصراع العربي الإسرائيلي ومحوره قضية فلسطين، يلفت نظرنا الدور المصري المتصاعد بروح الثورة الشعبية، والذي أخذ يغيّر في قواعد اللعبة الإقليمية القائمة على فرضية الهيمنة المطلقة الإسرائيلية والأمريكية وعلى العجز العربي.
إن معادلة القوة والضعف هي ليست معادلة مطلقة، بل أنها محصلة وضع وحالة وحقبة تاريخية. ولا بدّ أن تفرض ثورة مصر قواعد لعبة جديدة في المنطقة بخلاف معاييرالسياسة التي هيمنت على العقود الأخيرة، وبالذات التي تلَت اتفاقيات كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية الأمريكية والتي تعتبرها المؤسسة الأمنية الإستراتيجية الإسرائيلية أهمّ ركيزة ومعطىً للأمن القومي الإسرائيلي وسياساتها ومشاريعها في المنطقة وبالذات مشاريع الهيمنة والعدوان من جهة والتطبيع من الجهة الأخرى.
تتكوّن قوة إسرائيل من مركبات جوهرية أساسية، وهي تماسكها الداخلي والقناعة الداخلية، وكذلك ترسانتها العسكرية والتكنولوجية الإستراتيجية، واقتصادها المتطوّر. وهناك الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل الساعي ضمان تفوّقها العسكري الاستراتيجي. اما العامل الأساسي والأكثر قابلية للتغيير فهو الضعف العربي والفلسطيني. إن هذا البعد قابل للتغيير في حال توفرت إرادة عربية وفلسطينية بالطبع. ومن شأنه على المدى البعيد أن يغيّر قواعد اللعبة وأن يؤثر على المركبات الأخرى المذكورة.
كما أن القراءة الإسرائيلية الأمنية تحدّد أن قوة مصر من شأنها أن تحسم في هذه المرحلة باتجاه بلورة إرادة قومية عربية والتخلص من حالة العجز. وهذا ما تتعامل معه إسرائيل ليس بمجرّد سياسية، بل تغيير وضع استراتيجي، كما وتحدّد أن مصر تملك" مفاتيح المنطقة". وإذ يثير هذا التقدير المخاوف الإسرائيلية، فإنه يبعث الأمل للشعب المصري وشعوب المنطقة وبالذات الشعب الفلسطيني المناضل من أجل استعادة حقه.
في صفقة تحرير الأسرى والتبادل بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وبين إسرائيل، برز دور مصر الجديد وعمليا دور مصر الطبيعي بأنها تملك القدرة والإرادة كي تلعب الدور الذي يليق بدولة بمكانة مصر. وباعتراف إسرائيليين كثر، فإن الثورة ما كانت لتتم حسب تحليلاتهم، لولا التحوّل الجاري في مصر.
لقد نجحت صفقة "تبادل الأسرى" في كسر محرّمات سياسية إسرائيلية كانت طاغية بفضل قواعد لعبة "معادلة القوة" قبل ثورة مصر. وإحدى أبرز الدلالات لذلك كان أنّ الصفقة شملت خمسة أسرى محكومين مدى الحياة وقضوا أكثر من عشرين عاما في السجن الإسرائيلي وهم من فلسطين 48 الذين يطلق عليهم "أسرى الـ 48".
أسرى الـ 48 هم الحلقة الأصعب بين الأسرى عند حدوث تبادل أو خلال عمليات إفراج تحدث، فهؤلاء تعتبرهم إسرائيل "مواطنين وشان إسرائيلي داخلي" وتتشدّد بشأنهم من باب الردع للآخرين، وتحاول أن تمنع عنهم هويتهم الفلسطينية والقومية العربية التي هي بالذات كانت الدافع وراء مشاركتهم في النضال التحرري الفلسطيني والعربي. وتشكّل المحكمة الإسرائيلية أداه طيّعة في خدمة جهاز الأمن العام، ويتيح القانون تجريم التواصل بين فلسطينيي 48 مع عالمهم العربي، وتنزل أحكام انتقامية عالية جدا بحقهم. ومن ضمن هؤلاء كاتب هذه السطور الذي صدر بحقه حكم بالسجن تسع سنوات.
ضمن العشرات من أسرى الـ 48 المحكومين مدى الحياة، هناك أربعة عشر أسيراً قضوا ما بين عشرين وثلاثين عاماً في السجن الإسرائيلي . وقد شهدوا هم وعائلاتهم أربع اتفاقيات تبادل أسرى شملت آلالاف، لكنها لم تتعامل معهم كونهم يحملون الجنسية الإسرائيلية ومن هؤلاء من هم كبار السن والمرضى المزمنين ومنهم من فقد والده أو والدته أو كليهما وهو في السجن وجميعهم قضوا من حياتهم في السجن أكثر من خارجه. وكلهم ذاق كل العذابات والمعاناة والقهر، ولكل منهم أسم وقصة إنسانية وعائلية، إنهم جزء من رواية شعبٍ وأمّة. وقد أصبحوا اليوم المجموعة الأقدم من بين أسرى سجون الاحتلال الإسرائيلي الفلسطيني والعربي.
المواطنة الإسرائيلية للفلسطينية هي مواطنة قسريّة، فُرِضت على فلسطيني 48 وهم الذين بقوا في وطنهم فلسطين وصمدوا فيه بعد أن احتلته إسرائيل عام 1948 بعد أن اقتلعت وهجرّت غالبية أهله ضمن عملية "تطهير عرقي ممنهجة وهدمت خمسمائة وواحدة وثلاثين قرية ومدينة فلسطينية وصادرت كل ممتلكات الشعب الفلسطيني الفردية والجماعية.
لقد حرمت إسرائيل هذا الجز الحيوي من الشعب الفلسطيني من حقه بالتواصل مع شعبه ومع الشعوب العربية ولم تترك وسيلة قمع الا واستخدمتها، ومع ذلك صمدت الناس وازدادت قوة. وفي المقابل وللأسف، فإن "ظلم ذوي القرب" كان قاسيا جدا في قلب فلسطين 48 فقد تمَّ إقصاؤهم عربيا وطوال عقود ، وحين بدأ التعامل معهم من قبل الأنظمة العربية، وبالذات النظام المصري السابق ما قبل الثورة، فقد جرى ذلك من باب التعامل الوظيفي والتوظيف السياسي لوجودهم كما لو كانوا جمهورا احتياطيا وأداه لعب لتغليب هذا الحزب الإسرائيلي على ذاك في انتخابات الكنيست. وهذا موقف رفضه فلسطينيو 48، فكلا الحزبين الحاكمين تاريخيا في إسرائيل (حزب العمل وجزب الليكود) قد أجرم بحق شعبنا الفلسطيني وشعبنا العربي.
إن رفض التعاطي مع فلسطيني 48 وتحمّل المسؤولية تجاههم، وأيضا الإستفادة قومياً من دورهم وصمودهم وكفاحهم، إنما هو تعبير آخر عن روح الهزيمة العربية بعد نكبة العام 1948 والتي زادت بعد نكسة العام 1967. لكن مع هذا ورغم الظلم العربي فإنّ قرارنا وأرادتنا نحن فلسطيني 48 كانا ثابتين ولم يتزعزعا، وأكدنا دائما أن الشعوب العربية هي المدى الطبيعي لنا ولكل فلسطين وشعبها، وأنها لا بد أن تُنصِف من ظلمتهم الأنظمة التي أسقطتها الثورة، فكم بالحري حين تستعيد هذه الشعوب كرامتها وإرادتها المنتصرة.استبشرنا خيراً حين علمنا أن لمصر دوراً في تحديد الأسرى الذين سيفرج عنهم في المرحلة الثانية من عملية التبادل بين حماس وإسرائيل. ونتوقع من مصر أن تأخذ بالحسبان هذه الرسالة وأن تضمن أسرى 48.
نحن في الحركة السيرة ندرك أن صفقة "تبادل أسرى" مهما كانت، فلن يكون بمقدورها إطلاق سراح ستة آلاف أسير فلسطيني وعربي من الأسر الإسرائيلي. كما تدرك الحركة الأسيرة أنّ إدارة ملف تحرير الأسرى من خلال إستراتيجية واحدة أحاديّة، لا تستطيع تحرير الأسرى، وهذه نقطة ضعف خطيرة لدى القيادة الفلسطينية. لكنا ندرك أيضا أن مصر تملك قدرات وإرادة متعاظمة وأدوات تأثير تمكّنها من فرض قواعد لعبة جديدة وتحرير الأسرى دون الحاجة الى إستراتيجية الأسْر والتبادل، ونطالب بتفعيل هذا الدور المصري.
خلاصةيرفض فلسطينيو 48 أن يجري التعامل معهم كمسألة إسرائيلية داخلية، بل هم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني والأمة العربية والثقافة العربية والحضارة العربية، وجزء لا يتجزأ من معركة الصمود وإدارة الصراع مع المشروع الصهيوني الاستعماري العنصري. والمهام التي يقوم بها هذا الجزء من الشعب الفلسطيني هي القضية الفلسطينية بالكامل، سواء في الدفاع عن وجودهم وتطورهم في وطنهم أم دورهم في مشروع عودة المهجرين واللاجئين الى وطنهم وديارهم، ودفاعا عن عروبة القدس والأقصى والأوقاف الإسلامية والمسيحية الفلسطينية وفي مقاومة الاحتلال والسعي لإحقاق حق تقرير المصير وضمان المشروع التحرري الفلسطيني والعربي. وكذلك كونهم في خط المواجهة الأول لإفشال مشروع "الدولة اليهودية" وفي مواجهة الجوهر الإستعماري العنصري لإسرائيل ونزع شرعيتها ومقاومة مجمل السياسات والمشاريع المنبثقة عنه من قوانين وتشريعات عنصرية إستعمارية ومصادرات الأراضي وهدم البيوت العربية (43،000 ثلاثة وأربعون ألفاً) بيت مهدد بالهدم في النقب والجليل والساحل الفلسطيني. كما لم ولن يتراجع فلسطينيو الـ 48 عن حقهم وواجبهم بالتواصل مع الشعوب العربية ومناهضة التطبيع في حين أن أسرى 48 هم أسرى فلسطين والعرب في المعركة من أجل الحق في فلسطين.
إن إطلاق سراح أسرى الـ 48 لا يأتي بالاستجداء ولا بقرار من المحكمة الإسرائيلية القمعية العنصرية ولا من عفو يصدر عن "طيبة قلب" شمعون بيرس. بل أن معادلات تحرير الأسرى معروفة كما استعادة أي حق فلسطيني.
إطلاق سراح أسرى الـ 48 هو مهمة ممكنة وقابلة للتحقيق وسريعاً. الأسرى صامدون ويناضلون رغم القهر والألم والظلم، وكذلك عائلاتهم ومعهم كل شعبهم وحركات تضامن واسعة في العالم، وهناك أنشطة شعبية عربية بهذا الصدد ويمكن التوقع أكثر بكثير.
الدور العربي وبالذات المصري هو حاسم في حال توفرت الإرادة والقرار بذلك. مصر مطالبة بهذا القرار وبهذه الإرادة. وحين نقول مصر فالمقصود النظام العربي الجديد، لكن أولاً وأخيرا شعب مصر الحرّ صاحب القرار والإرادة المتحررة والمنتصرة.
نشر في بوابة 25 يناير يوم 29.11.11
وايضا: