أحد ابرز ما عكسته الانتخابات المحلية الاخيرة 22.10.2013 هو ظاهرة تبلور ونشوء تشكلات سياسية اجتماعية جديدة على المستوى المحلي البلدي. وقد حققت هذه التشكلات انجازات غير مسبوقة. ولا بدّ أن يكون لها أثرا عميقا على مستوى التنظيم السياسي للجماهير العربية، سواء المحلي في كل بلدة أم القطري.
هذه التشكلات هي أيضًا جامعة لأطياف مجتمعية واصطفافات أفرزتها الأحزاب كنتيجة منطقية لنموذج وجوهر عملها. كما وجاءت قيادات هذه التشكلات من بيئة العمل السياسي الحزبي والجماهيري ضمن الاصطفافات الوطنية. واستقطبت فئات وأوساط واسعة معنيّة أن تأخذ دورها في الفعل الاجتماعي والبلدي والسياسي، وضمان تمثل مصالحها كما ترتأي. وأعتقد أنه من الخطأ تجاهلها فهي حاضرة وبقوّة، ومن الخطأ الانطلاق من أنها تتشكل من قوى ذات عصابيات عائلية أو طائفية أو أنها "أداة مؤامرة"، بل أن مثل هذه القوى تتواجد بالتأكيد في هذه التشكيلات، لكنها أيضا تتواجد في الأحزاب أو ضمن تحالفات الأحزاب على المستويين المحلي والقطري.
لا تزال هذه التشكلات في بداية طريقها، حتى وان كسبت المعركة الانتخابية كما جرى بالذات مع ظاهرة "ناصرتي" في الناصرة. ولا يزال غير واضح منحاها وطموحاتها، هل هي محلية أم قطرية أم كلاهما معا، وكل الخيارات شرعية. وقد تتبلور وتتحول الى أحزاب جديدة وقد تضمحل، وهذا منوط بها وبمركباتها وكذلك بالواقع السياسي والاجتماعي.
في المقابل، هناك تسرّع في الادعاء بما يسمى "نهاية الأحزاب" أو "نهاية الأيديولوجيا". فالأحزاب والحركات السياسية المركزية بين الجماهير العربية لا تزال شكل التنظيم الأقوى بين هذه الجماهير وهي صاحبة القرار في لجنة المتابعة العليا- وهذا ايجابي، إذ لا يبدو أن هناك أشكال تنظيم أخرى تهدد صدارتها. كما أن "نهاية الأيديولوجيا" لم ولن تحصل، بل حتى "نهاية الأيديولويجا" هي ايديولوجيا بحد ذاتها- عالميا لتبرير هيمنة القوى الاقتصادية والاجتماعية والسياسة المعلومة ونزع شريعة تغييرها. وفي سياق الانتخابات المحلية، فإنها تهدف الى النيل من البعد السياسي الوطني والتحولات لصالح الشعوب.
إلاّ أن التحولات التي عبّرت عنها نتائج الانتخابات المذكورة، من المتوقع أن تنعكس على شكل التنظيم الجماعي للجماهير العربية، وبالذات على لجنة "المتابعة" ومركباتها وبشكل خاص على فائض التمثيل الذي حظيت به اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية وتضخيم دورها في اعادة تنظيم لجنة "المتابعة"، وقد جرى ذلك لاعتبارات حزبية وليس لاعتبارات الحاجة الوطنية والجماعية.
التطلعات الكفاحية للجنة المتابعة
السلطات المحلية ولأسباب بنيويّة ليست مؤهلة لرفع التطلعات الكفاحية للجنة المتابعة وهذا لا يقللّ من دورها ووظيفتها. بل أن تجربة الكفاح الفلسطيني في الداخل تؤكد أن إحدى أكثر الاطر المحلية "نضالية" في جوهرها، هي القرى "غير المعترف بها" من قبل النظام العنصري الاستعماري، وهذه بالذات بدون سلطة محلية أو بلدية. في حين أن السلطات المحلية والبلدية تلعب دورا وطنيّا حين تقودها قوى وشخصيات وأطر وطنية. وهذا ما حدث في صميم التحول الذي بدأ في الناصرة عام 1975 بالانتصار التاريخي لجبهة الناصرة الديمقراطية برئاسة توفيق زياد حين حملت مشروعًا وطنيا نهضويا وكفاحيا، وكان أثر ذلك كبير في يوم الأرض عام 1976 وفي انتخابات العام 1977 واقصد الانتخابات المتعلقة بالسلطات المحلية. وهناك مؤشرات أن نتائج الانتخابات الأخيرة (تشرين 2013) تُشكل نهاية هذه الحقبة. وبالذات جراء الاخفاق القطري للجبهة، وهي الاطار الحزبي الأكثر تأثيرا في العمل البلدي، ولم يضاهي دورها أي حزب أو حركة أو اطار ولم يظهر نموذج عمل وتحالفات انتخابية بديل بالجوهر، لغاية التحول الحاصل في هذه الانتخابات، والذي لم يكن بديلا طوّرته الأحزاب، بل بديلا أفرزه الفراغ في دور الأحزاب، مع التأكيد أن مسؤولية الأحزاب هي حسب وزنها وتأثيرها.
مواجهة الجبهة
وقد تزامن مع النموذج التحالفي "للجبهات" عام 1977 ولاحقًا- وفي غالبية المواقع- والقائم على تحالف مع اصطفافات عائلية او محلوية، تزامنت ولادة النموذج النقيض، أي أن القوى العائلية او الجبهوية والمحلية الأخرى فتشت عن أحزاب أخرى لتتحالف معها في مواجهة الجبهة.. وهذا الامر بلغ حدًّا يصبح فيه الحزب السياسي عبئا على التشكلات المحلية كما حدث مؤخرا، وقامت بعض التشكلات في مواجهة كل الأحزاب. او كما عبر عنها رئيس بلدية الناصرة علي سلاّم بقوله: " انتصرنا على الجبهة والتجمع والاسلامية". ونظرا لإخفاق الجبهة في كل المواقع المركزية- الناصرة وشفاعمرو والبطوف، وطمرة والمثلث والنقب، فان الحديث ليس عن اخفاقات محلية غير مترابطة، بل اخفاقات لنهج قطري للجبهة- اي فشل السياسة المركزية. ومحاولة الاستعانة بمحاججات وخطاب مثل "اخفاق وفشل الأحزاب" او "انتصار العائلية" او "البلطجية" هي خطاب قائم على المواربة ويعكس توجها تبريريًّا للفشل بدل الاعتراف به وتحمل المسؤولية تجاهه.
أبناء البلد
حركة "أبناء البلد" مثلا، وهي التنظيم الاصغر حجما بين الاحزاب والحركات الوطنية في الداخل، حققت انجازا هاما وغير مسبوق بالنسبة لها، في مجد الكروم بالفوز برئاسة المجلس المحلي. و"الحركة الاسلامية" أعلنت مسبقا وبقرار سياسي واضح قبل عام تقريبا من الانتخابات بأنها لن تخوض أكثر الانتخابات البلدية بما فيه في ام الفحم. و"التجمع" ومنذ تأسيسه كان أثره محدودا وغير قوي في الانتخابات البلدية ولم يطرح مشروعا بديلا ولا سياسة تحالفات بديلة من حيث الجوهر. وتبقى "الجبهة" هي الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات وقد ينعكس هذا على قوة دورها ومدى أثرها كونها أكثر من راهن على العمل البلدي.
كما أن المحاججة بأن التعصب العائلي والطائفي كان سيّد الموقف في هذه الانتخابات، ليست دقيقة. فلم تكن هذه الانتخابات عنيفة كما كانت في الانتخابات التي سبقتها، بل هناك نماذج ايجابية وتبعث على التفاؤل، ففي بلدات عديدة كانت أجواء من الألفة وكانت تفاهمات وتم بلورة مرجعيات محلية توافقية تحاصر اية اشكالات جدية او عنف. كما أن أثر الحراك النسائي والشبابي الواسع أثر ايجابيا على هذه الاجواء. وكان التزام أكبر من الماضي لدى المرشحين للرئاسة في الكثير من البلدات وتبلورت ضوابط تضمن هذا الالتزام بالتوافق. ومن المهم التمييز بين العائلة كإطار وبين التعصب العائلي او الطائفي، فالتعصب قائم على الولاء المطلق للاطار، ونفي شرعية الآخرين. افلأحزاب اعتمدت بالغالب البعد العائلي أو الطائفي، فالتعصب قائم على الولاء المطلق، ونفي شرعية الآخرين. فالأحزاب اعتمدت بالغالب البعد العائلي والتركيب الحاراتي والطائفي والاجتماعي كعنصر في حساباتها، واعتمدت ثوابتها الاخلاقية الوطنية او التقدمية التي تحددها لنفسها كما ترتأي. حتى وان كان هذا الامر إشكاليًّا، اذ لا تكفي النوايا بل أنها كما الاخلاق بحاجة الى ضوابط وضمانات وحماية من الممارسة الانتخابية.
باعتقادي ان الانتخابات قد وفّرت فرصًا لتغييرات بعيدة المدى اكثر منها اشكاليات وأزمات للمجتمع، لكن بشرط استغلال الفرص وعدم اهدارها.
وهذا يقودنا الى اعتبار ما جرى، هو مقدّمات لاتساع وتعمق التعددية السياسية والحزبية ودخول ما يمكن تسميته "لاعبين جدد" الى حلبة العمل الحزبي التعددي والعمل الجماهيري، وهذا واقع لا ينبغي تجاهله، بل أن تجاهله سيؤدي الى اهدار الفرص لتتحول الى مشاكل وأزمات ستلحق ضررا اكبر بالأحزاب والحركات السياسية ومجمل الحركة الوطنية.
تحديات اتساع التعددية- "الكنيست" و"المتابعة" كنموذج
على صعيد لجنة المتابعة العليا ينبغى ان تتبلور آلية جديدة للتعاطي مع ثلاثة انواع من التنظيمات والأطر غير المتمثلة في لجنة المتابعة، واقصد، التشكلات التي نحن بصددها وسوف اتوقف عندها، وفي المقابل، حركات وحراكات شبابية وشعبية معنيَّة بلعب دور فعّال ونشط في الفعل السياسي وفي تحديد ملامح الطموح السياسي والمشروع السياسي الاجتماعي المستقبلي للجماهير العربية وكذلك الجمعيات الاهلية وقطاع العمل الاهلي. لكن احصر نقاشي هنا في التعاطي مع التشكلات السياسية الاجتماعية الجديدة، فبطبيعة الحال سيكون لها حضور ملموس في مؤسسات لجنة المتابعة.
المتوخّى من الأحزاب والحركات السياسية التي تشكل العمود الفقري للجنة المتابعة، هو أن تسعى الى استيعاب حضور هذه التشكلات ضمن العمل الوطني الجماعي والكيان الجماعي الوطني (لجنة المتابعة). والنظام الداخلي "للمتابعة" لا يقرر مستوى وسعة التنظيم السياسي القائم بل عليه أن يعكسه ولا بدّ من تعديل النظام الداخلي بشكل يحول دون أي اقصاء. كما أن التوجه الجامع في "المتابعة" لهذه التشكلات من شأنه أن يخلق بيئة وطنية ايجابية لانعتاقها في "المتابعة" ولتطور التشكلات الداخلي بشكل ايجابي. كما ان اي تعامل اقصائي او استثنائي سيعزز التوجه التعصّبي في هذه الاطر على حساب الوطني.
كما واعتقد ان اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، ستحسن صنعًا لو شكلت مجلسًا عامًا استشاريًا لأعضاء وعضوات السلطات المحلية المنتخبين، مما سيعزز التوجه التشاركي والتشاوري ويسهم في اثراء العمل وبلورة السياسات، وكذلك يسهم في خلق اجواء حوارية برؤية واسعة ويخلق تفاعلات قطرية مجتمعية واسعة وفي تعزيز العمل المحلي بذات الوقت.
انتخابات "الكنيست"
على صعيد الكنيست فالآمر منوط بسلوك وتوجه الاحزاب التي تشارك بالانتخابات واقصد الكتل الثلاث " الموحدة" و"الجبهة" والتجمع"، لكن من شأنه ان ينعكس على مجمل البيئة السياسية الحزبية. وحيث هناك توجه في هذه الكتل لتشكيل قائمة انتخابية مشتركة لمواجهة تحدي رفع نسبة الحسم لانتخابات الكنيست، ولضمان بقاء تمثيل هذه الكتل فيها، من خلال تبني نموذج "المحاصصة" بين الكتل الثلاث- وأنا شخصيا لست من رواد هذه التوجه بغض النظر عن موقفي من انتخابات الكنيست الإسرائيلي، بل غيرةً على الاحزاب ودورها. وهناك تخوّف على اسقاطات هذا المسلك على الاحزاب وتناسقها الداخلي وبنيتها وبالتالي على مشروعها السياسي.
ان نموذج المحاصصة المطروح، وهو الاكثر احتمالاً، سوف يكون على حساب التمايزات السياسية والاجتماعية والفكرية التي تشكل روح الحالة الحزبية المتفاعلة. وسوف تتيح "المحاصصة" كنموذج دفعة للانتهازية والوصولية السياسية، وكذلك لمظاهر عايشناها في الجولة الانتخابية البرلمانية الأخيرة، مثل اقامة اطر شبه حزبية هدفها ايصال شخصيّة معيّنة لعضوية الكنيست. وعمليا تقوم بعملية مقايضة.. بما معناه دعم قائمة معينة مركزية مقابل ضمان مقعد او تمثيل لنصف دورة في الكنيست، او استحقاقات مالية. وهي طريقة لعب على هامش اللعبة البرلمانية للأحزاب العربية، التي بالأساس تقع على هاشم اللعبة البرلمانية الاسرائيلية. اما نموذج القائمة المشتركة لكل الاحزاب فإنها دخول لاعبين جدد سوق يخرج هذه الظاهرة من محدوديتها الحالية ليجعلها منتشرة وقوية على حساب قوة الاحزاب المركزية وحتى حياتها الحزبية الداخلية.
ان التشكلات السياسية الجديدة التي انعكست في الانتخابات المحلية، لديها مقوّمات ليس بالسهل الاستهانة بها، وقد تتوجه بأكثر من شكل، ومنها طلب التمثيل في تحالف المحاصصة (القائمة المشتركة في حال تشكلت)، وقد يكون توجهها قائم على صفقة ومقايضة مع الاحزاب المركزية او جزء منها وذلك على صيغة: "ندعمكم في انتخابات الكنيست لكن أخلوا لنا الحلبة المحلية" اي ان تنشغل الاحزاب بالبعد القطري وتترك البعد المحلي. ومثل هذه "الصفقة" ممكنة لكنها خطيرة، اذ انها ستضعف الاحزاب المركزية التي اثبتت جدارتها مجتمعة كحركة وطنية في اطار لجنة المتابعة، كما وستضعف منسوب تسييس السلطات المحلية والبلدية. وكلا الخطرين من شأنه أن ينعكس على النضال الوطني الفلسطيني وأن يؤدي الى زجّ لجنة المتابعة في خانة قصر الرؤية وضيقها، وستجعل التضامن الاجتماعي وتقاسم الهم الوطني المشترك كما لو كان عبئا. وإضعاف الاحزاب سينعكس سلبًا على مجمل القدرة الكفاحية لجماهير شعبنا الفلسطيني.
وجدير ان يبقى أمام ناظرنا ان لجنة المتابعة ورغم نقاط ضعفها الجديّة، تبقى الكيان السياسي الجماعي لجماهير شعبنا في فلسطين 48، كما انها إطارا ذا بعد تمثيلي ومرجعي على اساس طوعي لكل الطيف السياسي والحزبي للحركة الوطنية في الداخل بتياراتها العلمانية والدينية واليسارية والقومية والتقدمية والمحافظة تحت سقف طوعي واحد، وهذه ظاهرة فريدة في عالمنا العربي لغاية اليوم.
وعليه فإن التعاطي مع نتائج الانتخابات والسعي لتحويلها الى فرصة للبناء الذاتي ولاستيعاب قوى مجتمعية جديدة هي مهمة وطنية جماعية من الدرجة الاولى.
كلمة شخصية
ارى من المناسب تقديم التحية وتأكيد التقدير للسيد رامز جرايسي الذي قام بدوره القيادي بجدارة وكان أمينا للناصرة ومؤتمنا عليها. لقد نجح رامز جرايسي في قيادة مشروع وطني نهضوي كبير تمثل في تعزيز ورفع شأن ومكانة الناصرة على خارطة الوطن وعلى خارطة العالم وبامتياز.
الناصرة كما فلسطين سيّان، فالناصرة على خارطة العالم يعني فلسطين على خارطة العالم.
تحية تقدير للسيد رامز جرايسي على ما قدّمه ويقدّمه
No comments:
Post a Comment