ثورات شعوبنا تعزِّز ما في شعبنا
بقلم: أمير مخول
لا يوجد نظام في العالم غير قابل للسقوط في ظرف معيّن. ولم يحدث أن سقط نظام حكم من تلقاء نفسه وما لم يتم إسقاطه. وأدبيات الثورات في التاريخ تعلمنا الكثير الكثير.
ليرفدها شعبنا العربي بميزات جديدة ودروس تاريخية تتلاءم مع ثورات عصر العولمة والمعلوماتيّة، حين تتحرك الكتلة البشرية الهائلة وتكبر وتتعاظم بوتيرة غير مسبوقة. ثورات حرّكتها حركة اجتماعية- حركتها الناس- بكل تياراتها وقواها المعنية بالتغيير وعمليا الغالبية العظمى من المجتمعات الثائرة. ثورات العرب سارت وفق "قانون الثورات" أي تلك اللحظة حين لا يستطيع المقهورين مواصلة القبول بحالة القهر ولا يستطيع النظام القاهر الاستمرار في أدوات حكمه. ليحدث ما يجرد تسميته "سقوط الدكتاتوريات في الربع ساعة الأخيرة".
لكن شاهدنا أيضا كيف يتهاوى نظام عربي حاكم وظالم وطاغي، يكف يتفكك النظام، وكيف خلقت الناس كل الناس – الشعب- حالة تصبح المؤسسة العسكرية كما في تونس ومصر أمام خيرا وهو أن لا مناص من التخلي عن رأس النظام بدلا من مواجهة مع الشعب. أو أن الشعب خلق معادلة جديدة فيها هو صاحب الشرعية الفعلي وهو الحاكم حتى أنه استقطب مواقع قوة في النظام ذاته بما فيها المؤسسة وأطراف مركزية في المؤسسة الاقتصادية والإعلامية والدينية والقضائية الخ.
وحين تفاقم وتراكم الظلم والاستبداد وامتهان الحق والكرامة الإنسانية والوطنية والقومية هذا من جهة وتتراكم حالة الكبت والاحتقان وتصبح حالة متحركة تتسارع حركة الشعب الجارفة ويتعطّل النظام وينهار، أو تنهار مركباته الأساسية وتبدأ حالة التحوّل. يصعب الاعتقاد بأن الثورات التي انفجرت في تونس ومصر هي حدث مخطّط من قبل جهة محدّدة، بل يبدو أكثر حدثّاً تولّد وتفاعل من تلقاء نفسه وكان الإسهام الأعظم باعتماد أدوات اتصال غاية بالسرعة وبالسهولة مثل الفيسبوك والتويتر والانترنيت وفضائيات إعلامية بوصفها عوامل جديدة أتقن استخدامها شباب مصر وتونس والأقطار العربية قاطبة، إنها أدوات حديثة وهي ملك الشباب والأجيال الصاعدة ولغة تخاطبهم وتواصلهم ونقل همومهم وأحلامهم وهي أداه تجمعهم ومعهم كل الشعب. كما أنها جمعت بين الثورة والثورة التي امتدت بشكل متزامن في هذا الكمّ من البلدان العربية. وتزامنها ليس مخططاً لكنه مؤشر الى أن العالم العربي الذي عاش عشرات السنين من مشهد تفكك الأمة عاد اليها وأعاد تشكلها على أسس تعددية وديمقراطية على الأقل فيما يمثله المشهد الحالي ولغاية الآن، وإن كان مسار التحوّل لا يزال في بدايته من حيث رسم المعالم المستقبلية. لكن المؤشرات تشير الى نهضة عربية شاملة وليس موضعيّة في هذا البلد أو ذاك. إنها حالة أمّة لا حالة شعوب كل على حدة.
ولا بأس أن نتمعّن في مشاريعنا الفردية والجماعية، فكُلّ منا يتمنى ان يكون في ميادين التحرير العربية الثائرة وبالذات في ميدان التحرير كما اسمه في القاهرة، فكيف نفسِّر هذا الشعور، ويكف نفسّر متابعتنا الأخبار ليس من باب المشاهدة بل أكثر بشعور المشاركة وتمني المشاركة. ان ثورات العالم العربي هي ثورات لنا نحن الفلسطينيين- ليس ثورات غريبة او بعيدة عنا، ولا عن تاريخ ثوراتنا التحررية، وشعورنا المذكور يسبق أحيانا مواقفنا وأصدق منها، انها ثورات لنا، انها تعيد إحياء المعنى لصراعنا ونضالنا من أجل الحق الفلسطيني وتعطيه البعد العربي المتجدد الذي تراجع في الحقب الأخيرة، انها تعيد المعنى للوطن العربي وللآمة العربية المتحررة.
مشهد مكمّل للثورات العربية هذا المشهد الإسرائيلي الذي لم نشهده في مثل هذا البؤس والهزيمة منذ عشرات السنين، بؤس يعكس غياب الأفق وبداية وتسارع لانهيار دورها وأثرها ككيان. فهناك معادلة سادت منذ ستين عاما وأكثر وهي أن قوة إسرائيل وجبروتها وأثرها لا تقاس فقط بما تملك من قوة داخلية وجبروت عسكري، بل أن أحد أهم مركباتها الإستراتيجية هو الضعف العربي واستدامته. وهو ما عكسته الى حد كبير اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر واتفاقيات أوسلو مع السلطة الفلسطينية وليدة الاتفاقيات ذاتها والتي صادقت عليها منظمة التحرير الفلسطينية وهي في "قمة" ضعفها كما أكد ذلك في حينه شمعون بيرس لتبرير الاتفاقيات. كما وتؤكد السياسة الأمريكية بأعلى مستوياتها ان غياب حسني مبارك سيجعل إمكانيات الضغط الأمريكي على الفلسطينيين أصعب بكثير، وجاء ذلك في أعقاب الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن ضد إدانة المستعمرات الإسرائيلية في الضفة والقدس- وجاء في الموقف الأمريكي ايضا انه لو كان حسني مبارك في الحكم لفرض على السلطة الفلسطينية التراجع عن طرح اقتراح القرار المذكور أمام مجلس الأمن، والأمثلة تكاد لا تحصى على خدمة النظام العربي البائد لمصالح الولايات المتحدة وإسرائيل، والكثير منها فضحته تسريبات ويكليكس مؤخراً وفضحته الثورة المصرية بكل ما يتعلق بالارتباط الاقتصادي والنفطي والعسكري الاستراتيجي لمصر مع إسرائيل في إطار المخطط الأمريكي في المنطقة.
ان إحدى معادلات الصراع الجوهرية مع المشروع الصهيوني بكل تجلياته الاستعمارية والعنصرية والعدوانية هو أنه لا يكفي أن يكون الطرف الفلسطيني او العربي محقاً بل ن الحق بحاجة الى توزن قوى تحميه ويوفر إمكانيات إحقاقه.
ان سقوط أنظمة عربية عظمى بمفاهيم المنطقة والاستراتيجيات العالمية، هو نقطة تحوّل هائلة كون هذه الأنظمة وبالذات المصري اعتُمِدَت من قبل المشاريع الأمريكية الإسرائيلية العدوانية كنقاط ارتكاز وثبات وثوابت في المعادلات المختلفة، لكن انهيارها مقابل قوة الشعب الهائلة هي أيضا مؤشر بأن لا نظام قائم على الغبن التاريخي ولاحتلال والتطهير العرقي والعنصري والاستعمار قادر على مواجهة حركة الشعوب حين تبلور إرادتها. ولن تكون قوة آخر أنظمة الفصل العنصري والاستعمار أقوى من إرادة الشعب الفلسطيني والشعب العربي عامة.
كان ملفتا للنظر هذه الايام هو بؤس ورداءة الموقف الإسرائيلي وضعفه أمام عاصفة الشعب العربي، ولم يكن صدفة أن يتحدث حتى نتانياهو عن تردي سمعة وموقع إسرائيل عالميا وعن الخطر الحقيقي من نزع شرعيتها دوليا. وفي هذا لنا دور نحن الفلسطينيين ومعنا الشعوب العربية وكل أنصار الحرية في العالم. لقد انهار مع انهيار نظام مبارك وبن علي وتزعزع غالبية الأنظمة العربية الحاكمة، انهار خطاب تلك الأنظمة، الخطاب الظلامي القائم على اعتبار العدو الحقيقي للشعوب العربية هو حركات المقاومة التي تعمل بين ظهرانيها، وهو استهداف القوى التي ترفض المشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة ولا تستسلم لموازين القوى الأخذة بالانهيار بعد الثورة، وهو استحداث العداء لإيران ومحاولة طرح الصراع الأساسي بأنه طائفي او مذهبي وليس مع العدوان الأمريكي، احتلال العراق واستعباد أنظمة المنطقة وخيرات شعوبها وليس مع إسرائيل واحتلالها فلسطين. لم يعد مهما اذا كانت هذه الأنظمة وبالذات نظام مبارك كانت مقتنعة بهذه المعادلة ام لا، فانها معادلة قد طارت مع أصحابها، وحلت مكانها معادلة ديمقراطية تعددية بروح الشعب الذي لتحم ولم تكن الثورة لتنجح لو لم يمتلئ ميدان التحرير وميادين التحرير ليس فقط بالناس وبالكتل البشرية كأعداد وحسب، بل وبشكل جوهري بتعددية شعبية ضمّت كل أطياف المجتمع العربي من تيارات علمانية ودينية وقومية ليبرالية وشاركت المرأة وشارك الرجل في أحداث الثورة على أساس انها تعددية قائمة لكنها مجتمعة ضمن مرجعية واحدة لا إقصاء فيها ولا تخلّي لأحد عن المسؤولية الجماعية، انها مرجعية الشعب والقرار قرار الشعب المنبثق عن إرادته المتحررة.
وفي حالتنا الفلسطينية فالمعادلات تغيرت وتتغير أكثر لاحقاً. بقي جوهر الحق الفلسطيني كما هو، لكن معادلة وتوازن القوة تغيّر ليس بين جيش وجيش بل بين نظام استعماري عنصري عدواني عسكري وبين إرادات شعوب ومسؤوليات جديدة لأنظمة جديدة. ومع هذا فلن نتفاجىء لا من محاولات "الثورة المضادة" ولا من مساعي التدخل الأجنبي وبالذات الامبريالي الأمريكي. لكن الضمان الأهم والواعد هو قوة الشعب ووعيه لقوته ولسيادته وللشرعية التي يمنحها لشكل الحكم الذي يريده.
ان شعبنا الفلسطيني هو شعب ثائر ومناضل ومكافح منذ دخول المشروع الصهيوني للمنطقة وبالذات منذ العام 1948، انه شعب مّر ويمر بمراحل مدّ وجزر في مشروعه التحرري لاستعادة حقه في فلسطين وعليها.
شعب لم يملك يوماً ترف عدم إدارة الصراع ومواجهة أعدائه، انه شعب جرّب كل أشكال المقاومة وهي حق له وواجب عليه حتى استعادة حقه وأولا عودة اللاجئين والتخلص من الاحتلال وتحرير أسراه وتقرير مصيره وهكذا هي جماهير شعبنا الفلسطيني في الداخل والتي ستحيى هذا الشهر يوم الأرض، هذا اليوم الذي شكّل في العام 1976 ومنذ العام 1976 ملهماً لكل شعبنا ولكل الشعوب العربية ولكل أنصار الحرية بالعالم بان المقاومة الشعبية طريق وحين يلتقي أصحاب الحق مع الإرادة لإحقاقه لا يقف بوجههم أي نظام.
إن ثورة شعبنا العربية عززت ما في شعبنا، إنها تأكيد إضافي لنا جميعاً أن لا شيء في معادلة الصراع القائم على الحق هو نهاية المطاف، وطالما لم يجر إحقاق الحق، كامل الحق..