Saturday, July 9, 2011

السجينات السياسيات في تحدي سياسات الإخراس السياسي من خلال كتابة الذات

كتابة الذات وأدب المقاومة النسائي الفلسطيني

قراءة في كتاب عائشة عودة، "أحلام بالحرية"

جنان عبده *



"لم أنطق، ومددت يدي أمسح البصقة عن وجهي وأنا أقول لنفسي،

تماسكي يا عائشة، لا بد من الصمود" (عوده 2007، 55
"خرج حامل الكرباج وجاء آخر..سأل: ألم تتكلم؟. هذه واحدة قحبة..

طيب بنشوف إلى متى ستصمد.. كنت أحادث نفسي بينما أتلقى الصفعات

على وجهي: هل تعب الذي كان يصفعني؟" (عوده 2007، 73-74)



أحاول في هذا المقال أن أقدم قراءة تحليلية لكتاب يسرد تجربة الاعتقال في سجون الاحتلال الإسرائيلية التي مرت بها عائشة عودة، والتي تشكل نموذجا لاعتقالات أخرى تمر بها نساء الوطن في سجون الاحتلال الإسرائيلي. وتقدم تحليلا لأبعادها النفسية، الاجتماعية والوطنية ووقعها وأثرها على الكاتبة وعلى العمل النسائي المسلح كجزء من حركة تحرير الوطن. تبين هذه الدراسة من خلال استحضار مقاطع من الكتاب وتحليلها، كيف تتفاعل وتتداخل في هذه التجربة الشخصية مفاهيم اجتماعية وسياسية بعضها ببعض، وكيف تتحول التجربة الشخصية لتجربة عامة تتكرر مع معتقلات أخريات، وتعكس واقع احتلال، وتُظهر كيف تقوم سلطات الاحتلال وأجهزته المختلفة باستغلال هذه التجارب والمفاهيم، من أجل كسر روح المقاومة وضرب المقاومين/ات. مستعملة بذلك أبشع طرق التعذيب وأكثرها لا إنسانية، التي تحاول أن تُجرد الإنسان الفلسطيني من إنسانيته لكنها في المحصلة هي التي تفقد آخر معالم إنسانيتها، حيث تحاربه كي تنتصر عليه وتكسره بينما يقاوم هو كي لا يضيع حقه. وفي هذا البعد الإنساني الأخلاقي تغلب كفة الضحية على كفة المعتدي رغم جبروته وعتاده.

 
تُظهِر هذه الدراسة كيف تعمل مفاهيم الشرف والتمييز الاجتماعي الجندري، كسيف ذي حدين، تدفع النساء ثمنه، خاصة في ظروف الاحتلال. وتؤكد مقولة استعملتها الناشطة والكاتبة النسوية المصرية- نوال السعداوي- في سياق آخر، مفادها أن التغطية والتعرية، هما وجهان لعملة واحدة. في هذه الحالة حماية المجتمع/العائلة للمرأة والخوف على جسدها من الاعتداء الجنسي، ومحاولة المُحتل تعرية المرأة واغتصاب هذا الجسد، هما وجهان لعملة واحدة، وان لم تكن المقارنة متكافئة، لكنها تخدم فكرة تحويل المرأة لشيء، مما يجردها من إنسانيتها ، ومن قدرتها على اتخاذ القرار ومن سيطرتها على جسدها وملكيتها له، مرة يسلبها مجتمعها ملكيتها على جسدها، وأخرى المُحتل. فيتحول الجسد أيضا كما الأرض والوطن محور السلب/ الحماية، محور الصراع.

تختار الكاتبة بجرأة كبيرة أن تُشارك القراء جميعا هذه التجربة الشخصية- تجربة الاعتقال بكل حيثياته، فتحوِّلها بذلك إلى تجربة جماعية تكشف ظلم الاحتلال وواقعه، وطرائق مقاومته على يد النساء الفلسطينيات، كجزء من شعبهن وكجزء من الحدث وليس بمعزلٍ عنه. تكشف بذلك أن هذه التجربة الشخصية جزء من المعركة ضد الاحتلال وفي مقاومته، ولا يمكن إبقاؤها شخصية وملكا لفرد واحد، وتأتي لتتفاعل مع قصص الآخرين ولتعبر عنهم.

 هذه التجربة التي انتظرت الكاتبة كما تشير بذاتها، ثلاثين عاما ونيّفاً لتعيد سردها، من خلال كتابها الأدبيّ الروائيّ، واعية أنها هي وفقط هي بإمكانها أن تسردها، وبذلك تثبت وجودها وكينونتها، تقول: "أدركت بعمق أني أنا التي يجب أن اكتبها. فان كتابتها بواسطة غيري لن تكون هي بعينها" (ص 194).

تعرض الكاتبة عائشة عودة في هذا الكتاب أدقّ تفاصيل الاعتقال التي مرّت بها، في بداية الإحتلال الإسرائيليّ للضفّة الغربية عام 1967. تعكس البعد الجماعي وتتحدث من خلال التفاصيل الصغيرة عن تجربة شعب كامل وقع تحت وطأة الاحتلال وقاومه بكافة الأشكال. ويتحول الكتاب بذلك من كتاب روائي عادي ليصب في أدب المقاومة متخذا طابع كتاب تاريخ يُوثِق لتجربة الاعتقال في ظل الاحتلال وتجربة المقاومة، مقاوما للرواية الصهيونية التي تحاول أن تطمس هذه الحقائق. ينضمّ هذا الكتاب في تفاصيله الدقيقة، لمكتبة كتب التاريخ الفلسطيني، ورواية السيرة الذاتية، وهي سيرة محددة هذه المرة بتجربة الاعتقال ومقاومة الاحتلال، تجربة نسائية تُعرض بمنظور نسوي نقدي، وإن لم تُعَّرِف الكاتبة نفسها كنسوية.


الحديث والكتابة في مقاومة سياسات الإخراس

تضيف الكاتبة خصوصية لكتابها حين تقرر عن وعي نقدي أن تكتبه بذاتها وترفض أن يكتب غيرها روايتها-تجربتها المرتبطة والمتداخلة مع تجربة رفيقاتها، وتشرح الأسباب والدوافع، حين تقول: "صُدِمت، حين وقع بين يدي كتاب لأحد الأخوة الذين امضوا فترة طويلة في السجن. وكان قد أصدر كتابا عن تجربة الاعتقال. وتفاجئت بأنه تعرَّض لتجربتنا، نحن الفتيات، وأوجزها في صفحة تقريبا، كتجربة هزيلة، وبصفتنا لم نتمتع بوعي سياسي، أو تنظيمي، ولم نكن نعرف أولوياتنا!" (ص 195-194). تؤكد أقوال الكاتبة هذه الوعي الذاتي النسائي–السياسي، وأهمية كتابة الذات التي قد وعتها باحثات وناشطات أخريات وتؤكد بذلك على الارتباط الوثيق بين مفهوم الإقصاء وعلاقات السلطة بالمعرفة ودور الكتابة في إفساح مساحات أرحب للمرأة بهدف استنطاق المكبوت في المكتوب.

تكتسب كتابة الذات أبعادا خاصة، عندما يتم تحدي سياسات الإخراس السياسي التي يفرضها الاحتلال مستعملا مفاهيم اجتماعية قائمة، كمفهوم الشرف، كما في حالة عائشة وغيرها من النساء. عندما يتم الحديث عن تجارب نساء يعشن تحت احتلال، نساء عانين من اعتداءات وتعذيب، خارج السجون وداخلها، بسبب مواقفهن السياسية، أو تم استعمالهن سياسيا كوسيلة للضغط على أفراد آخرين بالعائلة، كما يحدث في الحالة الفلسطينية. تكتسب الكتابة في هذه الحالة وضعية خاصة، كونها تأتي لتكشف عن المكبوت والمُخرس، من قبل السلطات الحاكمة وفي كثير من الأحيان من قبل المجتمع وعائلة المرأة. بشكل عام وبكل المجتمعات، لا يتم الحديث عن قضايا التنكيل الجنسي ويتم إخراسها. كثيرات هن النساء اللاتي يتعرض للاعتداء ولا يبلغن لأسباب عدة: مجتمعية، قانونية، نفسية وغيرها. وهو واقع تحاول الأطر النسوية والحقوقية تغييره ومحاربته. هذا الإخراس، يتحول في كثير من الأحيان لإخراس مزدوج من قبل المُعتدي/المحتل، وكذلك من قبل المجتمع/العائلة كون الموضوع يهدد مفاهيم وقيما مجتمعية نشئوا عليها وقدسوها، والقصد "شرف العائلة" و"قدسية" عذرية الفتاة.


البحث عن المكبوت في المكتوب وكتابة ما لم يكتب
تظهر الكاتبة عائشة عودة، دواعي استغرابها ورفضها لما كتب عن تجربة المعتقلات السياسيات الفلسطينيات، وتوجه نقدها للكاتب– المناضل المذكور سابقا، حين تقول: "شكّل ما كتبه هذا المناضل صدمة حقيقية لي. فكيف له أن يكتب عن تجربة بينما يجهلها؟ ويكتب باستخفاف وعدم تقدير لتجربة عملاقة (حسب تقديري) كيف تجرأ؟ ربما، يعتقد أننا ضلع قاصر، فأعطى لنفسه الحق في التعرض لتجربتنا ، دون أن يخشى محاسبة" (عوده، 2007، 195).

من الواضح أن رفض فكرة الوصاية الذكورية- الأبوية خاصة على تجارب النضال والاعتقال، هي التي دفعت الكاتبة إلى أن تخط تجربتها بيدها، وهي وكما أحاول أن أبين من خلال قراءة ومراجعة الكتاب، كانت الحافز لتحدي مفاهيم مجتمعية ترسخ دونية المرأة وعدم قدرتها على الفعل أو القول أو الكتابة حتى عن تجربتها الشخصية!! وتفضيل الرجل وقدراته الكتابية أيضا. هذا التحدي هو الذي دفعها في الأصل لتجربة ما هو مفهوم مجتمعيا انه حَصرٌ على الرجال، أي الكفاح المسلح، ولاحقا خوض تجربة الاعتقال والصمود ورفض حل الخروج للأردن أو الانكسار أمام العدو/المحققين.

إن تحدي الوصاية الذكورية المجتمعية وتحدي المُحتل وكل مفاهيمه وممارساته، يشكلان المحورين الأساسيين الذين يدور حولهما الكتاب ويتفاعلان معا في ذات مقاومة واحدة. تصب بمفهوم أدب المقاومة وليس صدفة أن تختار الكاتبة اسم "أحلام بالحرية" كعنوان لكتابها وتجربتها، فهي تسعى من خلال الكتابة وعرض التجربة إلى التحرر من أعباء التجربة، التحرر من القمع الجنوسي المجتمعي والقمع الإحتلالي بما فيه الإهانات الجنسية. بذلك يمكن القول أن الكِتابة تقوم بفعل العلاج النفسي من الصدمة بالنسبة للكاتبة وتساعدها على التحرر من التوتر النفسي الذي سببه لها الاعتقال ومنعها من كتابة تجربتها طيلة ثلاثين عاما.

تنهي الكاتبة كتابها بمقوله مفادها انه يجب تجريم ومحاكمة مجرمي الحرب واعتبار ما يحدث في السجون الإسرائيلية من ممارسات مهينة وتعذيب بحق المعتقلين السياسيين جرائم حرب. كما تنهي بمقولة نسوية قوية مفادها أن "الرجال ليسوا أفضل من النساء، وان النساء لسن اقل من الرجال. وان الوطن والمستقبل والحرية والكرامة مسؤولية الجميع، وان الصمود مجد" (2007، 200). تبين أن انضمامها للجبهة الشعبية بداية من خلال تشكيل أول خلية من بنات صفها في الثاني ثانوي، وانتماءها لحركة القوميين العرب حينها، واختيار المقاومة (هناك 59) ومن ثم خيار الاعتقال على ترك البلاد هما بفعل موقف سياسي ينم عن وعي والتزام وطني واضح.

تتحدث عائشة عن المراحل التي مرت بها كتابتها وانتقالها من لغة الخطابات والشعارات أو البيانات السياسية، الى أن وصلت لمرحلة شعرت بها أنها اخترقت الجدار وأنها "امتلكت لغتها الخاصة" كما تقول هناك (ص 196). وهي لحظة التجلي والانطلاق في كتابة الذات، والتي تصفها الكاتبة بكلماتها "تجربة جديدة، كانت الكتابة، ورحلة لاكتشاف الذات، وفهم للتجربة من جديد، وإعادة إنتاج التجربة بالكلمات والصور" (ص 197). فتحولت الكتابة إضافة لكونها عاملا للتوثيق إلى عامل نفسي مساعد، بعد كل هذه السنين تُحّرِّر الكاتبة من اسر التجربة ومن معاناتها، حيث تقول: "كانت الكتابة ليست معاناة فحسب ولكنها متعه أيضا. تضيء النفس وتحرر من تجربة، أثرت بعيدا في حياتي وعلى معالم شخصيتي. حين دفعت الكتاب للمطبعة، قلت باني تحررت من الآم التجربة؟" (ص 197) تشكل الكتابة بهذه الحالة ما يشبه العلاج النفسي لمن تعرض لصدمة كصدمة الاعتقال والتعذيب والاعتداء بكافة أشكاله.

لكن الكاتبة تعيد نفسها وتعيد القراء لأرض الواقع حين تتساءل: "هل حقا تحررت من السجن ومن آثاره ومن آلام التجربة؟" (ص 197) ما يؤكد لنا حجم وقسوة التجربة التي خاضتها، وصعوبة التحرر منها للأبد. حيث تساعد الكتابة في هذه الحالة على مواجهة الذات والآخر المعتدي والقدرة على العيش مع الذات وفهم الواقع والماضي بكل تركيبته وتعقيداته، لكنها تشكك في قدرة المرء الكلية على نسيان تجربة قاسية صدمته، والتحرر من آثارها النفسية كليّا.

تضيف الكاتبة هذا الكتاب بذلك لسلسلة الشهادات التاريخية الحية على جرائم الحرب الإسرائيلية وتطرح هنا فكرة أضم صوتي إليها، هي أن من حق المعتقلين السياسيين الذين تعرضوا للتعذيب، في السجون الإسرائيلية، المطالبة بمحاكمه سجانيهم ومُعتَقِليهم- أدوات الاحتلال. لكني أضيف أن محاكمتهم لا تكون أمام محاكم إسرائيلية هي جزء من نظام وجهاز القمع ذاته بل بمحافل دولية.
إن اختيار الكاتبة الكشف عن تجربة التعذيب بكافة أشكاله في غياهب السجون الإسرائيلية، تكشف لنا الوجه البشع للمحتل واللا-أخلاقيات التي يحملها، وتكشف عن قدرة هائلة على مواجهة الواقع، والمجازفة باحتمال تعرض الكاتبة للوم والاتهام من قبل مجتمعها على جرأتها بالحديث عما لا يتم الحديث عنه. لكنها تبين أيضا قدرة النساء على تحدي حاجز الخوف / الحيز المُحرَّم والانخراط في النضال الوطني ودفع كل ثمن، بما فيه احتمال تعرضها لأنواع التعذيب المختلفة. وتظهر أن هذا النضال في بعض نواحيه هو أيضا ضد مفاهيم جندرية وتقاليد رجعية تُكبل المرأة وتحد من حركتها، ومن قدراتها واقتناعها بقدراتها. مفاهيم يستغلها المحتل ويستعملها ضد النساء ومجتمعاتهن في محاولة ردعهم/ن عن ممارسة حقهم/ن الطبيعي بالمقاومة.
من المهم جدا أن تقوم الحركة الوطنية باعتماد موقف داعم للسجينات الأسيرات السياسيات في تجربتهن الاعتقالية، وان لا تكتفي بذلك بل تشجعهن على مقاضاة المعتدين عليهن، مقاضاة سياسية كمجرمي حرب. حيث يتم هذا الاعتداء داخل السجون وفي وضعيه غير متوازنة وغير متكافئة بين حاكم ومحكوم، وفي ظل احتلال. ولعل محاولة عائشة عودة في كتابة تجربتها الاعتقالية، تشكل حافزا لنساء أخريات اعتقلن في السجون الإسرائيلية، أن يكتبن تجاربهن، ويوثقنها، وأن لا يتنازلن أبدا عن حقهن، وأن يخرجن من دائرة الصمت التي يحاول المعتدي جرّهن إليها، وأن يخرجن ضد سياسات الإخراس والإسكات ويكشفن المكبوت ويكتبنه.


 







No comments: